الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
هنا معرفة لأن المحققين من علماء العربية قالوا إنها قد تتعرف بالإضافة وذلك إذا وقعت بين متضادين معرفتين نحو عليك بالحركة غير السكون، وقال ابن السري وغيره: إذا أضيفت: {غَيْرِ} إلى معرف له ضد واحد فقط تعرفت لانحصار الغيرية وهنا المنعم عليهم ضد لما بعده ولا يرد على هذا قوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 7 3] لجواز أن يكون: {صالحا} حالًا قدمت على صاحبها وهو غير الذي أو غير الذي بدلًا من صالحًا ولو قيل ضد الصالح الطالح والذي كانوا يعملون فرد من أفراده فليس بضد لم يبعد، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: {غَيْرِ} بالنصب وروي ذلك شاذًا عن ابن كثير وهو حال من ضمير: {عَلَيْهِمْ} والعامل فيه: {أَنْعَمْتَ} ويضعف أن يكون حالًا من: {الذين} لأنه مضاف إليه والصراط لا يصح بنفسه أن يعمل في الحال وقيل يجوز والعامل فيه معنى الإضافة، وجوز الأخفش أن يكون النصب على الاستثناء المنقطع أو المتصل إن فسر الإنعام بما يعم ومنعه الفراء لأنه حينئذٍ بمعنى سوى فلا يجوز أن يعطف عليه بلا لأنها نفي وجحد ولا يعطف الجحد إلا على مثله، وأجيب بزيادة لا مثلها في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] وفي قول الأخوص:
واعترض بأنه لم تسمع زيادتها بعد واو العطف والكلام فيه، وحكى بعضهم عن الأخفش أن الاستثناء في معنى النفي فيجوز العطف عليه بلا حملًا على المعنى فحينئذٍ لا يرد ما ورد، وعند الخليل النصب بفعل محذوف أعني أعني وبه أقول لأن الاستثناء كما ترى والحالية تقتضي التنكير ولا يتحقق إلا بعدم تحقق التضاد أو يجعل: {غَيْرِ} بمعنى مغاير لتكون إضافته لفظية وكلاهما غير مرضي لما علمت وقال بعضهم في الآية حذف والتقدير غير صراط المغضوب عليهم وهو ممكن على هذه القراءة فيكون: {غَيْرِ} حينئذٍ إما صفة لقوله الصراط وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف إذا قلنا به والأصل العكس أو بدل أو صفة للبدل أو بدل منه أو حال من أحد الصراطين والصراط السوي عدم التقدير.والغضب أصله الشدة ومنه الغضبة الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل والغضوب الحية الخبيثة والناقة العبوس وفسر تارة بحركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام كما في شرح المفتاح للسعد وتارة بإرادة الانتقام كما في شرح الكشاف له وأخرى بكيفية تعرض للنفس فيتبعها حركة الروح إلى خارج طلبًا للانتقام كما في شرح المقاصد.ويقرب منه ما قيل تغير يحدث عند غليان دم القلب، وفي الحديث: «اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه» وفي الكشاف معنى غضب الله تعالى إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده وأنا أقول كما قال سلف الأمة هو صفة لله تعالى لائقة بجلال ذاته لا أعلم حقيقتها ولا كيف هي والعجز عن درك الإدراك إدراك والكلام فيه كالكلام في الرحمة حذو القذة بالقذة فهما صفتان قديمتان له سبحانه وتعالى.وحديث «سبقت رحمتي غضبي» محمول على الزيادة في الآثار أو تقدم ظهورها.وأصل الضلال الهلاك ومنه قوله تعالى: {أَءذَا ضَلَلْنَا في الأرض} [السجده: 10] أي هلكنا وقوله تعالى: {وَأَضَلَّ أعمالهم} [محمد: 8] أي أهلكها والضلال في الدين الذهاب عن الحق، وقرأ أبو أيوب السختياني: {وَلاَ الضالين} بإبدال الألف همزة فرارًا من التقاء الساكنين مع أنه في مثله جائز.وحكى أبو زيد دأبة وشأبة وعلى هذه اللغة قراءة عمرو بن عبيد: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنس وَلاَ جَانّ} [الرحمن: 39] قوله: وهل يقاس عليه أم لا؟ قولان وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن الزبير أنهما كانا يقرآن و{غير الضالين} والمتواتر لا كما في الإمام وهو سيف خطيب أتى بها لتأكيد ما في: {غَيْرِ} من معنى النفي والكوفيون يجعلونها هنا بمعناها والمراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى وقد روى ذلك أحمد في مسنده وحسنه ابن حبان في صحيحه مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم فيه خلافًا للمفسرين فمن زعم أن الحمل على ذلك ضعيف لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينًا من اليهود والنصارى فكان الاحتراز منهم أولى بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل فقد ضل ضلالًا بعيدًا إن كان قد بلغه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فقد تجاسر على تفسير كتاب الله تعالى مع الجهل بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله في منكري الصانع لا يعتد به لأن من لا دين له لا يعتد بذكره، والعجب من الإمام الرازي أنه نقل هذا ولم يتعقبه بشيء سوى أنه زاد في الشطرنج بغلًا فقال ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون وعلله بما في أول البقرة من ذكر المؤمنين ثم الكفار ثم المنافقين فقاس ما هنا على ما هناك وهل بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين قول لقائل أو قياس لقائس هيهات هيات دون ذلك أهوال، واستدل بعضهم على أن المغضوب عليهم هم اليهود بقوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} [المائدة: 60] وعلى أن الضالين النصارى بقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ} [المائدة: 77] والأولى الاستدلال بالحديث لأن الغضب والضلال وردا جميعًا في القرآن لجميع الكفار على العموم فقد قال تعالى: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَب مّنَ الله} [النحل: 106] وقال تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيدًا} [النساء: 167] ووردا لليهود والنصارى جميعًا على الخصوص كما ذكره المستدل وإنما قدم سبحانه المغضوب عليهم على الضالين مع أن الضلال في بادئ النظر سبب للغضب إذ يقال ضل فغضب عليه لتقدم زمان المغضوب عليهم وهم اليهود على زمان الضالين وهم النصارى أو لأن الإنعام يقابل بالانتقام ولا يقابل بالضلال فبينهما تقابل معنوي بناءً على أن الأول إيصال الخير إلى المنعم عليه والثاني إيصال الشر إلى المغضوب عليه أو لأن اليهود أشد في الكفر والعناد وأعظم في الخبث والفساد وأشد عداوة للذين آمنوا ولدًا ضربت عليهم الذلة والمسكنة.وورد في الحديث: «من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود» رواه السلفي والديلمي وابن عدي، والنصارى دون ذلك وأقرب للإسلام منهم ولذا وصفوا بالضلال لأن الضال قد يهتدي، ومما يدل على أن اليهود أسوأ حالًا من النصارى أنهم كفروا بنبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام والنصارى كفروا بنبي واحد وهو نبينا صلى الله عليه وسلم وفضائحهم وفظائعهم أكثر مما عند النصارى كما ستقرؤه وتراه إن شاء الله تعالى، وقول النصارى بالتثليث ليس أفظع من قول اليهود: {إِنَّ الله فَقِير وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181] وقولهم: {يَدُ الله مَغْلُولَة} [المائدة: 64] وقولهم: {عُزَيْر ابن الله} [التوبة: 30] فمن زعم أن النصارى أسوأ حالًا متوكئًا على ما في دلائل الأسرار لم يعرف أسرار الدلائل وهي بعد العيوق عنه وليست المسألة من الفروع ليكتفي مثلنا فيها بالتقليد المحض لاسيما وفضل الله تعالى ليس بمقصور على البعض.وقال بعضهم: تأخير الضالين لموافقة رؤوس الآي ولا بأس بضمه إلى تلك الوجوه وإلا فالاقتصار عليه من ضيق العطن وإنما أسند النعمة إليه تعالى تقربًا والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله تعالى عليه وتحقق، ولذلك أتى بالفعل ماضيًا وانحرف عن ذلك عند ذكر الغضب إلى الغيبة تأدبًا ولأن من طلب منه الهداية ونسب الإنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام.وقد عد ابن الأثير في كنز البلاغة والتنوخي في الأقصى القريب بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله نوعًا غريبًا من الالتفات فإن كان الالتفات كما في استعمال الأدباء والمتقدمين بمعنى الافتنان فلا غبار عليه وإن كان بالمعنى المتعارف فلك أن تقول على رأي السكاكي الذي لا يشترط تعدد التعبير بل مخالفة مقتضى الظاهر أن المخاطب إذا ترك خطابه وبنى ما أسند إليه للمفعول والمحذوف كالغائب فلا مانع من أن يسمى التفاتًا فكما يجري في الانتقال من مقدر إلى محقق يجري في عكسه وهو معنى بديع كما قاله الشهاب. اهـ. .قال السمرقندي: وقد أجمع المفسرون أن المغضوب عليهم أراد به اليهود، والضالين أراد به النصارى، فإن قيل: أليس النصارى من المغضوب عليهم؟ واليهود أيضًا من الضالين؟ فكيف صرف المغضوب إلى اليهود، وصرف الضالين إلى النصارى؟ قيل له: إنّما عرف ذلك بالخبر واستدلالًا بالآية.فأما الخبر، فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلًا سأله وهو بوادي القرى: من المغضوب عليهم؟ قال: اليهود قال: ومن الضالين؟ فقال: النصارى؛ وأما الآية، فلأن الله تعالى قال في قصة اليهود: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ وللكافرين عَذَاب مُّهِين} [البقرة: 90] وقال تعالى في قصة النصارى: {قُلْ يَأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ في دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السبيل} [المائدة: 77]. اهـ..قال ابن عاشور: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين}.كلمة غير مجرورة باتفاق القراء العشرة، وهي صفة للذين أنعمت عليهم، أو بدل منه والوصف والبدلية سواء في المقصود، وإنما قدم في الكشاف بيان وجه البدلية لاختصار الكلام عليها ليفضي إلى الكلام على الوصفية، فيورد عليها كيفية صحة توصيف المعرفة بكلمة {غير} التي لا تتعرف، وإلا فإن جعل: {غير المغضوب} صفة للذين هو الوجه وكذلك أعربه سيبويه فيما نقل عنه أبو حيان ووجهه بأن البدل بالوصف ضعيف إذ الشأن أن البدل هو عين المبدل منه أي اسم ذات له، يريد أن معنى التوصيف في: {غير} أغلب من معنى ذات أخرى ليست السابقة، وهو وقوف عند حدود العبارات الاصطلاحية حتى احتاج صاحب الكشاف إلى تأويل: {غير المغضوب} بالذين سلموا من الغضب، وأنا لا أظن الزمخشري أراد تأويل غير بل أراد بيان المعنى.وإنما صح وقوع {غير} صفة للمعرفة مع قولهم إن غير لتوغلها في الإبهام لا تفيدها الإضافة تعريفًا أي فلا يكون في الوصف بها فائدة التمييز فلا توصف بها المعرفة لأن الصفة يلزم أن تكون أشهر من الموصوف، فغير وإن كانت مضافة للمعرفة إلا أنها لما تضمنه معناها من الإبهام انعدمت معها فائدة التعريف، إذ كل شيء سوى المضاف إليه هو غير، فماذا يستفاد من الوصف في قولك مررت بزيد غير عمرو، فالتوصيف هنا إما باعتبار كون: {الذين أنعمت عليهم} ليس مرادًا به فريق معين فكان وزان تعريفه بالصلة وزان المعرف بأل الجنسية المسماة عند علماء المعاني بلام العهد الذهني، فكان في المعنى كالنكرة وإن كان لفظه لفظ المعرفة فلذلك عرف بمثله لفظًا ومعنى، وهو: {غير المغضوب} الذي هو في صورة المعرفة لإضافته لمعرفة وهو في المعنى كالنكرة لعدم إرادة شيء معين، وإما باعتبار تعريف غير في مثل هذا لأن غير إذا أريد بها نفي ضد الموصوف أي مساوي نقيضه صارت معرفة، لأن الشيء يتعرف بنفي ضده نحو عليك بالحركة غير السكون، فلما كان من أُنعم عليه لا يعاقب كان المعاقب هو المغضوب عليه، هكذا نقل ابن هشام عن ابن السراج والسيرافي وهو الذي اختاره ابن الحاجب في أماليه على قوله تعالى: {غير أولي الضرر} [النساء: 95] ونقل عن سيبوبه أن غيرًا إنما لم تتعرف لأنها بمعنى المغاير فهي كاسم الفاعل وألْحَقَ بها مِثْلًا وسِوى وحَسب وقال: إنها تتعرف إذا قصد بإضافتها الثبوت.وكأن مآل المذهبين واحد لأن غيرًا إذا أضيفت إلى ضد موصوفها وهو ضد واحد أي إلى مساوي نقيضه تعينت له الغيرية فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة، إذ غيرية الشيء لنقيضه ثابتة له أبدًا فقولك عليك بالحركة غيرِ السكون هو غير قولك مررت بزيد غيرِ عمرو وقوله: {غير المغضوب عليهم} من النوع الأول.
|